أراء حرة

“الوطن” صحيفة هشة، صحفيون دون أجور ومساهمون غارقون في الريع

عودة الاشهار العمومي للمساهمين و استمرار إضراب العمال و الصحفيين

عادت إدارة جريدة “الوطن” منذ بداية الأسبوع الجاري لتستفيد من ريع الاشهار العمومي بمعدل صفحة واحدة و نصف الصفحة كل يوم ،وهذا في الوقت الذي يتواصل فيه إضراب أكثر من 100 عامل من عمالها بين صحفيين وصحفيات ومراسلين ومراسلات و إداريين و أعوان متعددو الخدمات من مجموع 129 موظفا في الجريدة.

بدأ هذا الاضراب بشكل متقطع و متدرج في شهر جويلية الفارط، ثم تم تجميده لإعطاء فرصة أخيرة للإدارة لإيجاد حل، و هو ما لم يحدث فدخل العمال في إضراب غير محدود منذ 16 سبتمبر الماضي، لتتواصل معه معاناتهم وهم في الشهر العاشر دون تلقي الأجور.

دعوى قضائية ضد النقابة وكسر الاضراب بأبناء و بنات وزوجات المساهمين

الأدهى في كل هذا، أن مجلس إدارة الجريدة، رفع دعوى قضائية في 19 أكتوبر الماضي ضد المضربين للحصول على حكم قضائي يقضي بعدم شرعية الاضراب، كما اتخذت الإدارة قرارا بكسر الاضراب من خلال دخول المساهمين الذين تقاعدوا بأجور خيالية للعودة لقاعة التحرير كمتعاونين، و تجنيد بعض أبنائهم و بناتهم للغرض نفسه، بل و حتى بعض زوجاتهم، كما تم تعويض مصلحة الاشهار الموجودة في إضراب بوكالة الاشهار “أكوم” التي تسيرها إحدى المساهمات ، في عملية تثير كل التساؤلات حول حقوق العمال و الحق النقابي الذي تضمنه قوانين الجمهورية، و لا يعترف به مساهمو “الوطن” الذي جاء الكثير منهم من محيط حزب الطليعة الاشتراكية ومن أيديولوجية تمجد العمال و حق الاضراب، فكيف تحول هؤلاء في مسارهم من صحفيين في القطاع العام و من حركة الصحفيين الجزائريين إلى أرباب عمل لا يعترفون بالحق النقابي و بحق الاضراب؟

فكرة اتفاق مجلس الادارة- الذي لم ينعقد منذ جوان الماضي المساهمين- على كسر الاضراب ليس جديدا في ثقافة الادارة ، فقد سبق لها التحالف مع إدارة جريدة اسعد ربراب “ليبرتي” من أجل تركيب و طبع الجريدة لكسر إضراب عمال “ليبرتي” عام 2017.

وكالة الاشهار تعطي الاشهار العمومي لجريدة لها ديون في الجباية و لا تدفع أجور عمالها

الوكالة الوطنية للنشر و الاشهار التي وقعت اتفاقا لتمويل “الوطن “بالإشهار العمومي هذا الأسبوع، لم تر أية ضرورة لإعلام الجمهور كيف و لماذا تم قطع الاشهار العمومي عن هذه الشركة في السنوات الأخيرة؟، و لماذا كانت هذه الجريدة بالذات مع شبيهاتها في تسعينيات القرن الماضي و بداية هذه الألفية من أكثر الجرائد حصولا على الاشهار؟ و لماذا عقد الاتفاق في هذا الوقت بالذات؟ و ما هي معايير الحصول على الاشهار و إيقافه؟ و ما هو المنطق الذي يتحكم في كل ذلك؟ و ماذا حدث حتى يعقد هذا الاتفاق مع جريدة “الوطن” الآن و إضراب عمال هذه الجريدة يدخل شهره الرابع؟ و قبل هذا و ذاك كيف يمكن لشركة عمومية أن تعقد اتفاق إشهار مع صحيفة لها ديون لدى الجباية لا تقل عن 5 ملايير سنتيم حسب تصريحات مدير الصحيفة ؟ بالإضافة إلى ديونها مع صندوق التأمينات الاجتماعية للعمال الأجراء وغيرها من الديون.

ثم متى يتمكن الجزائريون و الجزائريات من حقهم في معرفة كيف تسير هذه الشركة الريع الاشهاري؟، خاصة ,انه سبق و أن اتهم أحد مدراءها السابقين الكثير من إطاراتها بالفساد، و بأن توزيع الاشهار يتم عبر الولاء، بدليل ان جزء من هذه الملفات موجودة في جهاز القضاء. فهل ستزول هذه الضبابية في التسيير على حد قول الرئيس تبون في آخر خرجة إعلامية له في إطار تعهداته قبل نهاية عهدته في ديسمبر2024؟ وهو الذي لا يتوقف عن الدعوة إلى الرقمنة من أجل إرساء الشفافية –كما يقول-، فهل سترقمن عمليات تمويل الاشهار العمومي للصحف الورقية و الالكترونية و يخبر الرأي العام بتفاصيل ذلك؟

في انتظار ذلك، كل شيء يقول أن عودة الاشهار لصحيفة “الوطن” له علاقة بممارسات موجودة منذ توقيف المسار الديمقراطي في جانفي -1992 إلى اليوم على الأقل وهو توزيع الريع الاشهاري وفق الولاء السياسي، وهو ما يبرز من خلال تصفح هذه الجريدة في الأسابيع الماضية منذ دخول صحافييها في هذا الاضراب المفتوح(أنظر نموذج بعض واجهات الصحيفة)، التي ضمن تحرير غالبيتها الساحقة المساهمون المتقاعدون و الذين تكون قد أعادت بعضهم لبداياتهم في الصحافة و الدعاية زمن صحافة الحزب الواحد و هم في نهاية العقد السادس و بداية العقد السابع من العمر.

الخط السياسي للجريدة وصراعات عصب النظام

الخط التحريري لجريدة “الوطن” بالرغم من بعض الاستثناءات القليلة في فترات ضغط من قبل بعض الصحفيين المهنيين فيها ، لم يخرج منذ تأسيسها من التموقع حول شبكات منظومة الحكم و عصبه على غرار غالبية الصحف، فالجريدة تم استخدامها مثلا مع جزء كبير منها لشن حملة ضد شخص رئيس الحكومة بلعيد عبد السلام منذ توليه إدارة قصر الدكتور سعدان في 19 جويلية 1992 إلى تنحيته في 21أوت 1993، فالحملة قادتها جزء من شبكات المصالح المتحالفة مع صناع القرار ضد بلعيد عبد السلام، الذي اكتشف أن رئيس الحكومة الذي سبقه–أي سيد أحمد غزالي-كان قد وزع الميزانية الخاصة بالقطاع الخاص تقريبا بشكل كلي إلى إسعد ربراب و بعض المقاولين الذين يسبحون في فلك بعض العصب في الحكم، فقام بلعيد عبد السلام بتوقيف استفادة هؤلاء مما تبقى من أموال، و قام بتأسيس جهاز خاص تابع لرئيس الحكومة له سلطة النظر في استعمال العملة الصعبة، خاصة و أن الجزائر كانت في حالة اختناق مالي بسبب تراكم خدمات الديون، كما بدأ في صياغة برنامج” اقتصاد الحرب” كما كان يقول لتفادي إعادة جدولة الديون مع صندوق النقد الدولي، وهو ما رفضه بعض المقاولين الخواص المتحالفين مع جزء كبير من عصب النظام، و النتيجة استمرار الحملة الإعلامية الشرسة و إضراب جزء من ناشري الصحف ضد قرارات بلعيد عبد السلام و حكومته الذي اتهمته جمعية الناشرين بالتضييق على حرية الصحافة، و كانت النهاية بإقالة حكومة بلعيد عبد السلام و تعويضها بالراحل رضا مالك، الذي ذهبت مباشرة بعد ذلك و كما أراد أصحاب القرار و جماعات المصالح إلى صندوق النقد الدولي لعقد اتفاق كانت تكلفته الاجتماعية باهضة، انتهت بتفكيك الكثير من الشركات العمومية و تسريح عشرات الآلاف من العمال بمباركة كل الطبقة السياسية و غالبية العناوين الإعلامية –من بينها الوطن طبعا- التي ساندت مسار السلطة و سياسة الاستئصال و الكل الأمني.

من تخوين بن بلة ومهري و آيت أحمد و علي يحيى إلى الحرب على بتشين و الدعاية لتبون

الحملة ضد شخص بلعيد عبد السلام و بغض النظر عن كل خياراته و أخطائه، لم تكن الحملة الوحيدة التي أظهرت تموقع مجلس إدارة الجريدة و غالبية مساهميها مع بعض عصب النظام ضد عصب أخرى، فالجريدة التي كانت تتقاسم هذا التوجه مع صحف أخرى مفرنسة و معربة، قادت حملة دعاية و كراهية كبيرة ضد شخصيات سياسية كانت تدعو للمصالحة و الحوار لوقف نزيف الدم و الحرب ضد المدنيين في تسعينيات القرن الماضي، فيمكن بالعودة لأرشيف الصحيفة قراءة تهم الخيانة و العمالة للخارج لشخصيات سياسية لها وزن في تاريخ الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار ، من حسين آيت أحمدإلى أحمد بن بلة و عبد الحميد مهري إلى علي يحيى عبد النور و غيرهم ممن كانوا يرون ان سياسة الكل الأمني خطر على المجتمع و تقضي على كل أمل في إرساء السلم المدني. كما أن الجريدة صفقت لكل سياسات النظام في فترة التسعينيات بحجة معاداة الاسلاميين، كما أنها كانت في قلب صراعات عصب النظام من الحملة ضد الجنرال محمد بتشين و رئيسه الجنرال اليمين زروال، إلى التعتيم على تحركات المترشحين المنسحبين من رئاسيات أفريل 1999، بعدما اتفقت عصب النظام على فرض عبد العزيز بوتفليقة في قصر المرادية، كما أن الجريدة كانت في مقدمة المساندين لترشح علي بن فليس لرئاسة الجمهورية عام 2004 بعد أن ساندت جزء من عصب النظام على رأسهم الفريق محمد العماري هذا الترشح، وتقود معها حملة ضد شخص بوتليقة، لتعود مرة أخرى في حملة ضد العهدة الرابعة لعبد العزيز بوتفليقة بعد أن رفضت عصب أخرى هذا الترشح على رأسها الفريق محمد مدين المدعو توفيق، وفي كل تلك السنوات كانت الجريدة غارقة في ريع الاشهار على غرار نظيراتها، من إشهار الوكالة الوطنية للاشهار، إلى الاشهار الخاص و إشهار الأوليغارشيا من شركات عبد المومن خليفة و اسعد ربراب و غيرها من الأسماء.

توقيف الاشهار عن الجريدة كان بعد ذلك لسنوات، إلى أن تم عقد هذا الاتفاق الأسبوع الماضي مع وكالة الاشهار العمومية، بعد أن دخلت الجريدة في حملة دعاية لصالح شخص عبد المجيد تبون.

استمرار منظومة إعلامية قائمة على الريع الاشهار و الدعاية السياسية يهدد الدولة و لا يخدم حتى السلطة

مساهمو جريدة “الوطن” و ملاكها لا يختلفون عن غالية مدراء و ملاك الأجهزة الاعلامية الأخرى، لأن كل هؤلاء هم نتاج منظومة إعلامية واحدة، منظومة متأزمة قائمة على ثنائية الريع الاشهاري و الدعاية السياسية، وهو ما يستمر إلى اليوم، و لا توجد أية مؤشرات لتغيير هذه السياسة على المدى القريب أو المتوسط، رغم ان هذه السياسة أثبتت إفلاسها و فشلها، فالسلطة لا زالت تصرف ملايير الدينارات لدعم أجهزة إعلامية فاقدة للمصداقية لدى الرأي العام و هي في الأول و الأخير تقوم بالدعاية و التضليل بالأدوات نفسها الموجودة من عشريات من الزمن، رغم أن بنية الجمهور و ثقافته و البيئة التكنولوجية و العالمية تغيرت تغييرا كبيرا، لذلك كله فكل المؤشرات تشجع على الذهاب نحو مسار جديد من أجل إحداث تغيير جذري لهذه المنظومة الاعلامية بهدف إحداث قطيعة تاريخية مع الدعاية و منطق الريع الاشهاري، القطيعة مع منظومة إعلامية تهدد الدولة و تضر النسيج الاجتماعي و لا تخدم حتى السلطة و رجالاتها، لأنها تعطي صورة رديئة عنهم وعن خطاباتهم.

تمويل الدعاية لا يبني الدولة ، يستأصل السياسة و يدفن مهنة الصحافة

و في انتظار أن يقتنع أصحاب القرار يوما ما أن هذه المنظومة الاعلامية مكلفة ماليا، فاقدة للمصداقية مهنيا، و عديمة الجدوى سياسيا، تتواصل معاناة الصحفيين و الصحفيات في “الوطن” و في غيرها من الأجهزة الاعلامية، صحفيون يعانون من العوز، و لا يفكرون لا في حرية الصحافة و لا في حق الجمهور في الاعلام بسبب منظومة إعلامية أنتجت طبقة من غالبية من مديري ومالكي المؤسسات الإعلامية الخاصة يتمتعون بثراء فاحش بفضل ريع الإشهار ، وعدم دفع ملايير الدينارات من ديون المطابع و الجباية وغيرها، في ظل غياب نقابة قوية تدافع عن المهنة و عن حقوق الصحفيين و الصحفيات.

و قبل هذا وذاك تستمر السلطة في صرف ملايير الدينارات على هذه الأجهزة الإعلامية دون حسيب و لا رقيب لدعم منظومة إعلامية عديمة المصداقية و التأثير ، فإلى متى يستمر تبديد المال العام لتمويل الدعاية التي لا تبني الدولة و تستأصل السياسة و تدفن مهنة الصحافة؟

بقلم: رضوان بوجمعة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى