Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
أراء حرة

حديث عن ”تصنيم“ كاتب ياسين

في 28 تشرين الأول/ أكتوبر 1989، تُوفي كاتب ياسين وهو لم يتجاوز بعدُ الستين. كانت الجزائر في بداية «انفتاحها الديموقراطي»: جبهة الإنقاذ تقودها بالسلاسل إلى الجنة الإسلامية، والجيش يشجع أكثر القيادات الدينية تطرفاً ويتذرع بها لإطلاق النار على هذا الانفتاح المزعوم. لم يُقدر لكاتب ياسين أن يتساءل: هل نساند النظام ضد خصمه المتشح برداء الدين؟ هل نلعن كليهما أم نبقى على الحياد، وما أبشع حياد المثقفين؟ نجا من واجب حل هذه المعضلة وأنقذه الموت من مشهد السلطة اليوم وهي تلبس ثوب الإسلام ومشهد ثوبها الوطني وهو يتسع للإخوان المسلمين.


ما عسانا أن نقول في ذكرى رحيل كاتب ياسين؟ هل نسرد قائمة أعماله ونردد أن «نجمة» هي إحدى أجمل القصائد في تاريخ الرواية، وإحدى أجمل الروايات في تاريخ الشعر؟ كل ما يمكن قولُه عن أدبه سبق أن قيل. أما ما يشار إليه نادراً، فمحاولة استرجاعه من طرف النظام وسعي بعض أصدقائه إلى جعله صنماً يطاف حوله كغيره من أصنام المثقفين.


في ذكرى وفاته العشرين، قررت البيروقراطية الثقافية تكريمه على طريقتها الخاصة. «قررت نصب تمثال له في المكان المسمى عين غرور، قرب حمام نبيلس، موطن القبيلة التي ينحدر منها والذي استوحى منه الكثير من أحداث روايته نجمة». هذا نص الخبر كما أوردته جريدة «الوطن». لم يتوقع أحد، ولا أكبر العارفين بجزائر المعجزات، أن يُنظر يوماً إلى عنصر فني في نصوص كاتب ياسين (أي الأصول المتخيلة لبعض شخوصها) كحقيقة من حقائق «علم الأنساب». ثم أليس من المضحك أن يساق صاحب «الأسلاف يزدادون ضراوة» إلى ساحة القبيلة عنوة، وهو من كان يحلم بالعالم قطعة واحدة دون فواصل أو حدود؟


عوّدتنا البيروقراطية الثقافية على اعتبار النصب التذكارية أرقى عروضها التكريمية، وعلى ابتسار أكثر الحيوات ثراءً في كلمات باهتة تلح على جنسية الراحلين وعلى ما قدموه من «خدمات جليلة للثقافة الوطنية». عوّدتنا، بحجة انتماء الجميع إلى «أرض الجزائر، بلد المليون ونصف مليون شهيد»، على أن تقدس فلاناً ونقيضه على السواء، مؤسس جمعية العلماء المسلمين، عبد الحميد بن باديس، والعلماني كاتب ياسين، مقاوم الاحتلال الروماني يوغرطة وحليف هذا الاحتلال القديس أوغسطين. عودتنا على كل شيء، فلم نعد نستغرب لا تجاهلها للأحياء ولا مبالغتها في الثناء على الأموات، لكنها أول مرة تتصرف فيها بهذه السوريالية الفذة فتنصب لأحدهم تمثالاً في «المكان المسمى عين غرور».


هذا عن المحاولات الرسمية لاسترجاع كاتب ياسين. أما بعض أصدقائه فحوّلوا إلى صنم من كان يعتبر الكتابة «الثورة عارية بل الثورة ذاتها دائمة الانفجار». عملية «التصنيم» هذه بدأت وهو بعدُ حي، باعتباره أكبر أديب جزائري على مر العصور، واعتبار رموزه الفنية أحجيات تستعصي على غير المقربين ممن شربوا معه قهوة فأسرّ إليهم بالأسرار الكامنة في ثنايا «نجمة» و«الجثة المطوقة» و«الرجل ذي النعل المطاطي». وكان هو يضيق ذرعاً بهذا التمجيد كما يبين ذلك رده على صحافية فرنسية قالت له إنه «أديب عملاق»: «عملاق؟ بل قولي إني خرافة بالأحرى. كنت أمثل إلى حد الآن أحد جوانب استلاب الثقافة الجزائرية. كنت أعتبر كاتباً كبيراً لأن فرنسا قررت ذلك. الحقيقة أن اسمي معروف كاسم لاعب كرة أو ملاكم، لكن كتبي لم تقل للشعب شيئاً لأنه لم يقرأها».


وعدا هذا «التصنيم» الصادق الساذج، هناك تصنيم غيره تشتمّ فيه رائحة الانتفاع. حال وفاة كاتب ياسين أصبح «شرح» أدبه (وهل يشرح الأدب؟) وإفناء العمر في كشف «أسراره» يدران الكثير من الشهرة، وأحياناً بعض المال. تسابق «الأصدقاء» إلى تفسير «نجمة» وكأنها طلسم من طلاسم القدماء أو حفرية لا تُعرف لغتها ولا في أية حقبة غابرة خطت على الصخر. تناسوا أن لا أكثر عتاقة وتقليدية من شرح «مقصد الكاتب» لأن النص، أي نص، مجال مفتوح ليس لأحد أن يزعم إدراك «معناه العميق». وكانت النتيجة، كما تقول الناقدة نجاة خدة، أن اقتنع الجزائريون بأن هذه الرواية الجميلة «غيهب سميك»، لا سبيل لفهمه دون عشرات الكتب والمعاجم والقواميس.


تحوّل كاتب ياسين كذلك إلى بضاعة رمزية، تضخم عدد «صحابته» فكلهم تلميذه أو رفيقه أو صديقه الحميم، ولولا مانع السنّ لزعم بعضهم بنوّته بل حتى أبوّته. أصبح ادعاء القرب منه وسيلة لتلميع صورة البعض في أوساط مغلقة تجتر نفسها، وأداة لإكساب الموهبة لمن لا موهبة له. تحوّل أيضاً إلى تيمة بروباغندا في سوق السياسة. سمعنا من يقسم أنه كان «ديموقراطياً صميماً» وهو لم يتكلم يوماً عن الديموقراطية، ومن يؤكد أنه كان اشتراكياً سوفياتياً رغم أنه كان أقرب إلى الفوضوية الشاردة منه إلى السوفياتية الجنائزية، ومن يزعم أنه كان ستالينياً رغم أن إعجابه الاستفزازي بـ«أب الشعوب» لم يجعله يهتدي بهدي دار التقدم الموسكوفية. نُسي أنه كاتب لا غير، وأن الكاتب، كما كان يقول، «هو داخل الفوضى فوضويُّها الأبدي».

ياسين تملالي، صحافي جزائري

في 02 فيفري 2010.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى